الحداثة الغربية- قراءة نقدية تتجاوز العقل والعلمانية

إن الداعين إلى تبني الحداثة الغربية غالبًا ما يستهلون حديثهم، أو ربما يعتبرون ذلك التعريف الأولي للحداثة، بالتركيز على الانتقال نحو عصر يرتكز على العقل والمنطق، واعتماد المنهج العلمي، مع إزاحة العقلية الدينية أو الخرافية أو الأسطورية جانبًا. يرى البعض أن الحداثة تجسد الإنسان المنتج والمبتكر، وليس الإنسان الذي يعتمد على السحر أو يؤمن به. بينما يركز آخرون على العلمانية والمواطنة المدنية، وهما أساس فصل الدين عن الدولة، كما هو الحال في النموذج الغربي للحداثة.
إلا أن هذه المقدمة، وهذا التعريف، يغفلان عن عدة جوانب جوهرية:
- أولًا: تاريخًا عريقًا وحضارة إسلامية زاخرة لم تشهد تعارضًا بين الدين والتفكير العلمي، أو بين الدين والانخراط في العلوم وشؤون الحياة المختلفة. لم يكن هناك حاجز مصطنع بين الإيمان بالله وخلقه، وبين تطوير العلوم واستكشاف قوانين الطبيعة والكون.
فالطب، والفلك، والكيمياء، والرياضيات، والخوارزميات – على سبيل المثال لا الحصر – كلها علوم ازدهرت ونمت في كنف الحضارة الإسلامية. وبالطبع، شهدت حضارات أخرى تطورات مماثلة، وإلا كيف تمكنت البشرية من التغلب على قسوة المناخ، وتطوير الزراعة، والملاحة، ووسائل النقل، وتربية الحيوانات وتدجينها عبر العصور المديدة، قبل أن تشرق شمس الحداثة الغربية.
صحيح أن الخرافات، وأعمال السحر، والمعتقدات الأسطورية قد وجدت حيّزًا لها، وتعايشت وتصارعت مع المؤمنين بالدين والعلم على حد سواء. ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن علماء المسلمين قد تبنوا المنهج العلمي والاستقرائي قبل قرون من ظهور الحداثة الغربية، ويُعتبرون بحق روادًا لعلماء من أمثال كوبرنيكوس وجاليليو. (يمكن الرجوع إلى كتاب جورج صليبا حول العلوم في الحضارة العربية والإسلامية لمزيد من التفاصيل).
من زاوية أخرى، فإن عدم الدقة أو الصحة في تمييز الحداثة أو الحضارة الغربية عن الحضارات التي سبقتها، بالاعتماد المطلق على العقل والعقلانية، يمثل إشكالية حقيقية. فالقول بتغليب العقل والعلم والصناعة، في مقابل عقل خرافي أو وهمي، هو في واقع الأمر اتهام ضمني لعقل وإنسان ما قبل الحداثة الغربية بالابتعاد عن الموضوعية وقوانين الحركة والحياة في مواجهة التحديات المختلفة.
- ثانيًا: من الضروري الانتباه إلى أن اعتبار الإنسان الصانع والعالم العلماني المعرفي هو السمة المميزة للحداثة أو الحضارة الغربية، هو أمر يفتقر إلى الدقة. تقديم الحداثة الغربية على أنها الحضارة التي انطلقت في القرن السادس عشر الميلادي وصولًا إلى يومنا هذا قد يكون مضللًا. ولا مانع من مناقشة وجهة نظر من يريد أن يبدأ بما يسمى عصر التنوير، أو الأنوار، وحقوق الإنسان، والدولة الحديثة والمجتمعات الديمقراطية.
ذلك لأن أول ما يميز الحضارة الغربية المعاصرة هو هيمنتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية على العالم، وهيمنة بدأت منذ عصر الملوك والإقطاع والكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.
التركيز على السمات المتعلقة بالعقل والصناعة والموضوعية العلمية لا يجب أن يحجب البُعد المتعلق بالسيطرة العسكرية العالمية والنهب المنظم للموارد. فماذا عن الإبادة الجماعية للهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية، وما تعرضت له الشعوب الأصلية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من فظائع ومجازر ونهب ممنهج في القرن السادس عشر، قبل أن يُنظر إلى الأوروبيين على أنهم حملة الأنوار والتنوير وحقوق الإنسان (أي الإنسان الحداثي الأوروبي الأبيض)؟
باختصار، يجب قراءة التاريخ بتأنٍ وتتبع مساراته بدقة. فالبحارة المسلمون الذين قادوا سفينة كولومبوس أو غاما لتبدأ الحداثة الأوروبية، هل كانوا يمثلون الإنسان الديني الأسطوري أم الإنسان الديني العالِم بفنون الملاحة وأصولها؟
هذا البُعد التاريخي، شئتم أم أبيتم يا دعاة الحداثة الغربية، لا يمكنكم تجاهله أو دفعه إلى الخلف في مقابل تقديم جاليليو أو ديكارت أو داروين أو نيوتن كرموز للحداثة.
- ثالثًا: الإشكالية التي يطرحونها في تعريف الحداثة الغربية على أنها تغليب حكم العقل والعلوم وحقوق الإنسان على ما يعتبرونه (الدين والأيديولوجيات الدينية) تثير تساؤلات جوهرية. فبماذا يجيبون لو قيل لهم إن هذا الفصل أو القطيعة مع الدين لم تعرفها الحداثة الغربية إلا في فرنسا، وأن العلمانية الفرنسية ليست سوى جزء ضئيل في عالم الحداثة الغربية التي تهيمن عليها الشعوب والدول الأنجلوسكسونية؟
فبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية والدول التي سادت فيها البروتستانتية هي الدعائم الأساسية للحضارة أو الحداثة الغربية.
هنا لا نجد قطيعة بين الحداثة الغربية والدين، بل نجد الدين جزءًا لا يتجزأ من تكوين الدولة، وفي صلب أيديولوجية الشعوب الغربية التي اعتنقت البروتستانتية. إنها الحداثة المتشبعة بالعودة إلى التوراة والأيديولوجية البروتستانتية الصهيونية الأكثر رجعية. بل حتى في يومنا هذا، تعلن الحداثة الغربية في الولايات المتحدة والغرب عمومًا عن نفسها كحضارة مسيحية (بروتستانتية)-يهودية، مما يعني أن جميع التعريفات التي تبدأ بالعقل والعلمانية والحرية وحقوق الإنسان والتقدم قد امتزجت بالبُعد البروتستانتي الصهيوني، قبل عصر التنوير وبعده.
وإذا كان هناك فكر يمكن اتهامه بالخرافة والأسطورية، والبعد عن العلمانية والعولمة وعصر العقل أو التنوير أو حقوق الإنسان، فهو البُعد البروتستانتي الصهيوني الذي يقود دفة الحداثة الغربية.
إنكار هذا البُعد وتجاهله هو ضرب من التضليل أو قصور فادح في الرؤية.
هل يعقل إغفال هذا البُعد الأيديولوجي المتجذر بعمق في الحداثة الغربية، بقيادة الدول الأنجلوسكسونية (أميركا وبريطانيا) التي قادت وتقود الحداثة الغربية، بما في ذلك التيار الفرنسي المعاصر؟
وهل يصح أن تُقيَّم الحداثة بمعزل عن حقيقتها؟ وذلك عند الحديث عن العقل والعقلانية والموضوعية والعلمية والعلمانية وحقوق الإنسان أو القيم الأخلاقية العالمية، مع التعتيم على علاقتها الوثيقة بالأيديولوجية الدينية.
من هنا، وفي وقت يستعيد فيه الغرب أساطير محرفة من التوراة ليزج بها في قلب الحداثة الغربية، مناقضًا بذلك جوهر تعريفه للحداثة، لا بد لنا من إعادة قراءة الحداثة الغربية من منظور أيديولوجي. فهذا البُعد الديني الأيديولوجي البروتستانتي الصهيوني، بالإضافة إلى بُعد السيطرة العسكرية العالمية والنهب الاقتصادي يشكلان معًا أساس الحداثة الغربية، ويبعدان بها كل البعد عن التعريف الذي يصورها كقطيعة مع الدين والحضارات غير الغربية.
وإذا أردنا أن نزيد الأمر وضوحًا، فهل "إسرائيل" ليست جوهرة تلك الحداثة؟ وهل ما يجري من إبادة جماعية مروعة في قطاع غزة لا يتم تحت رعاية ومباركة دول الحداثة الغربية؟ فأين العقل والتنوير وحقوق الإنسان في هذه المأساة؟
لهذا، من أراد أن يبحث عن حداثة حقيقية، فليبحث عنها بعيدًا عن الحداثة الغربية بمفهومها الحالي.